خريطة العراق الأثرية موضحا عليها منطقة واسط

المصدر: دورثي مكاي، مدن العراق القديمة، ترجمة: يوسف يعقوب مسكوني، ط3، (بغداد: مطبعة شفيق،1961م) ص 170.

واسط في عصور ما قبل الميلاد

واسط في التاريخ

تقع منطقة واسط بين خطي العرض 32-34 ,وخطي الطول 46- 48 ,ضمن منطقة السهل الرسوبي ،  الذي يمثل دلتا نهرا دجلة والفرات ، حيث يلتقيان مكونان سهلاً رسوبياً ، واسعاً طوله زهاء (650كم) من الشمال إلى الجنوب .
وتكون منطقة واسط ضمن الجزء الجنوبي من السهل الرسوبي ، وقريبة من مناطق الاهوار,  يعود أقدم استيطان بشري لمنطقة السهل الرسوبي , التي منطقة واسط إحدى أجزاءه في حدود (5600 ق.م) ,ومن هنا تبدأ القصة الأولى للحياة البشرية في هذه المنطقة .

مقدمة 

إن تل العبيد -الذي يقع على نحو 4 أميال إلى الشمال الغربي من اور – يمثل أول دور للاستيطان البشري في السهل الرسوبي ,حيث وجدت ذلك بعثة التنقيبات البريطانية في اور عام 1926 ـ 1927. فتكون منطقة واسط قد خضعت لنفس الظروف الاقتصادية والبشرية التي مر بها موقع العبيد , فنظرة واحدة للخريطة الاثارية للعراق نجد إن منطقة واسط تقع على بعد (160) كم بخط مستقيم إلى الشمال من موقع العبيد الاثاري , ومن هنا يبدأ التاريخ الفعلي لمنطقة واسط , أي منذ حوالي (7000) عام إلى الوراء. وإذا جئنا لمناقشة الأدوار الحضارية ، والمجموعات السكانية التي سكنت المنطقة , نجد إن أقدم مركز حضاري قريب من واسط كان مدينة لكش السومرية ,حيث تبعد عنها نحو (90) كم , وهذه المسافة يمكن أن تجعل منطقة واسط ضمن (المجال الحيوي) لهذه المدينة , كما إن مدينة الدير القديمة ،  التي تقع أطلالها قرب بدره حاليا , تقع إلى الشمال الشرقي منها , ومن ثم فان منطقة واسط الاثريه تقع بين مدينة لكش جنوبا ومدينةالدير شمالا , وعليه يمكن القول إن هذه المنطقة تقع ضمن حدود مدينتي لكش والدير , فإذا وضحنا تاريخ هاتين المدينتين يمكن بذلك أن نتتبع تاريخ منطقة واسط في العصور القديمة ,سواء قبل التاريخ ، أو في العصور  التاريخية . ومن المدن القديمة الأخرى القريبة  لمنطقة واسط هي مدينة (ملكيئوم) ،  التي يحتمل أنها تقع في مكان ما أسفل ملتقى ديالى بدجلة ، ولعلها اقرب إلى الكوت, وجاء منها مدونات بأخبار البناء والتشييد لأحد حكامها والمسمى (تاكل ـ ايليشو) وحاكم أخر باسم (ابق ـ عشتار) ,وذكرت هذه المدينة في الحوادث المؤرخ بها من ملوك لارسا ولا سيما (كنكونم) الذي دمرها في عام حكمه التاسع عشر, كما ذكرها حمورابي في عام حكمه الخامس والثلاثون . وقد اتبع البحث المنهج التحليلي للمصادر الأصيلة , فضلا عن اللجوء الى القياس والاستنتاج عند غياب الوثيقة المباشرة المتعلقة بالموضوع , وعليه يكون البحث هذا محاولة لدراسة الوثيقة التاريخية –  متمثلة بالمعطيات المسمارية والاثارية- بين نص الوثيقة وتأويلها.

لذا وعند محاولة توضيح تاريخ منطقة واسط منذ (5000 ق.م) وصعودا نجد الأتي :

منطقة واسط قبل الألف الثاني قبل الميلاد

مع استيطان السهل الرسوبي ، نجد إن المنطقة تبعت بحكم قربها الجغرافي من سلالة لكش , لذا فقد سكنها السومريون بطبيعة الحال ، وقد استمرت المعلومات التاريخية قليلة ومعدومة حتى نحو (3000 ق.م) حيث بدء التدوين التاريخي وحكم السلالات في العراق القديم . ويذكر الأستاذ (كريمر) انه سبق السومريين مستوطنين للسهل الرسوبي أقدم منهم ، وهم ما كانوا يعرفون بالفراتيين الأوائل ، وقد جاء من تراثهم اللغوي أسماء العديد من المدن والأماكن ، ويعود اسم دجلة إلى تراثهم اللغوي ، ومنه أخذت منطقة واسط اسمها الثاني (الدجيلة) .كانت سلالة كيش الأولى أول سلاله سومريه حكمت بعد الطوفان ، حيث يعود تاريخها تقريبا إلى نحو (3000 ق.م) . ويذكر أن أول حاكم سومري سجلت أعماله ،في  اقصر أنواع  الروايات هو ملك كيش (ايتانا) (Etana) ، ووصفه جدول الإثبات  السومري للملوك انه :

(هو الذي فتح كل البلدان) .

ونستنتج من ذلك انه لم يفرض سيطرته على بلاد سومر فقط ، وإنما على البلدان المجاورة للعراق القديم ,وعليه يمكن القول إن منطقة واسط قد وقعت ضمن نفوذه .أما من حيث طبيعة ارض منطقة واسط فالمعروف عنها أنها تتميز بطابعين هما :الطابع الزراعي والطابع الرعوي ، لذلك يمكن القول أنها كانت مناطق رعي مفتوحة  يستفيد منها الرعاة في إطعام ماشيتهم . وكانت منطقة واسط تبعد عن مدينة كيش نحو (190) كم , وقد تميزت هذه المنطقة كونها تقع على الطرق العامة إلى بلاد عيلام ,  وذلك من خلال وقوعها إلى الجنوب من مدينة الدير كما ذكرنا ذلك سابقا . وبصورة عامة يمكن القول أن اغلب ملوك العراق القديم ،الذين وحدوا القطر كله  كانت منطقة واسط قد وقعت ضمن نفوذهم ,وهؤلاء الملوك هم :

ميسانبيدا : مؤسس سلالة اور الأولى والذي نجح في ضم اغلب بلاد سومر إليه .

لوكالانيموندو: احد ملوك سلالة أدب(7), ومعروف عنه انه بسط نفوذه على جبال زاكروس.

ميسلم : وهو ملك كيش ,الذي قام بالتحكيم بين سلالتي لكش واوما.

اياناتم : حاكم دولة كيش ، الذي شن حروبا ناجحة ضد مدينة اور والوركاء واكشاك ,وسيطر على منطقة عيلام (10),وبما انه سيطر على بلاد عيلام ، فبطريق أولى  كانت (منطقة واسط) والتي تقع بين منطقة لكش وبلاد عيلام ، ستكون تحت سيطرته .

وبحسب الاستنتاج السابق ، المتضمن إن اقرب دولة مدينة سومرية عن منطقة واسط هي مدينة لكش,    فقد كانت منطقة واسط تقع على مجرى مشروع الري الكبير الذي شق من نهر دجلة منذ  منتصف الألف الثالث قبل الميلاد, ولعل (انتمينا) حاكم لكش (  2425 ـ 2395 ق.م ) هو الذي شق هذا المشروع .ويذهب الأستاذ (فوزي رشيد) إن نهر الغراف الحالي يمثل هذه القناة ، والتي سميت في المصادر المسمارية بقناة دجلة(11), وهنا نجد إن منطقة واسط تقع ضمن نفوذ سلالة لكش الأولى بشكل واضح وصريح , وإنها كانت تمر  فيها القناة الاروائية التي تروي أراضي سلالة لكش الزراعية. وبالعودة إلى مجرى نهر دجلة القديم ، نجد إن النهرغير مجراه (في منطقة الكوت) اذ كان فرعه الشرقي- وهو الآن المار بمدينة الكوت والعمارة-  المجرى الأصلي للنهر في العصور القديمة ، ولكنه غير هذا المجرى في أواخر العهد الساساني إلى مجرى غربي هو مجرى الدجيلة ,الذي كان يمر بموضع كسكر و واسط ,  لذا ظلت واسط مزهرة إلى حدود القرن السادس عشر الميلادي , وحينما بدأ الماء يقل في هذا الفرع  وبطلت صلاحيته للملاحة ، عاد النهر إلى مجراه الشرقي القديم, أي مجرى الكوت و العمارة, فاندثرت بذلك مدينة واسط .ومن الملوك الذين وحدوا  العراق القديم  ، ومن ثم  يحتمل أن منطقة واسط وقعت ضمن نفوذه كان (لوكال زاكيري) حاكم دولة (اوما),  الذي يذكر انه قام بفتوحات شملت كل ارض وادي الرافدين إضافة إلى سوريا القديمة, حيث يرد :

عندما وهبه انليل ، ملك كل البلدان وان السيادة والملكية

على الوطن (سومر) ، ووجه انظار الأمة إليه

وجعل كل البلدان تنتظره 

وجاء سرجون الاكدي ،  الذي استطاع من توحيد القطر كله في دولة واحدة مركزية ، ثم أصبحت بلاد عيلام هدفاً له كي يفرض سيطرته عليها ، إذ استطاع في إحدى الحملات ، من اسر خمس أمراء عيلاميين . وهنا نجد ملك آخر سيطر على بلاد عيلام .

ولأنه سيطر على سلالة لكش أيضا ينتج إن منطقة واسط قد وقعت تحت نفوذه ايضا ,لأنها تقع بين هاتين المنطقتين عيلام ولكش, وبالتالي فان منطقة واسط وقعت ضمن الحكم الاكدي .وبعد الغزو الكوتي للعراق القديم وقعت واسط ضمن سيطرتهم ، ولكن تميزت بلاد سومر بان السيطرة الكوتية فيها كانت شبه رمزيه ، حيث جاءت وثائق عن سلالة لكش الثانية (  2200-2100ق.م), التي حكمت تحت التسلط الكوتي بشكل ذاتي, وبرز فيها حاكمها السادس (كوديا) والذي وصلت كتابات عنه تذكر انه بسط نفوذه على نفر والوركاء ، وانه جهز حملة لسلب المدينة العيلامية (انشان). وبحسب نفس الاستنتاج نجد  ان (منطقة واسط) وقعت ضمن النفوذ السياسي لسلالة لكش الثانية, وما يعزز هذا الطرح انه كان من الطرق المؤدية إلى الأقاليم الشرقية ، ومنها عيلام , الطريق الذي يمر بمدينة دير (اودور ـ ايلو) وهي تلول العقر بالقرب من بدره ، وكان يسير محاذيا لسفوح جبال زاجروس حتى يصل إلى مدينة (سوسه) (عاصمة عيلام) , وكان هذا الطريق طريقا حربيا,  و كانت هناك مسالك أخرى إلى بلاد عيلام , كالمسالك التي تقع في منطقة شرقي دجله في واديه الأسفل- أي جهات (الكوت والعماره والبصره)-  وهنا نجد إن منطقة واسط كانت تقع على احد الطرق التي تربط بلاد سومر مع بلاد عيلام . وبعد طرد الكوتيين على يد (اوتو حيكال) ومجيء سلالة اور الثالثة (2112 ـ 2004 ق.م) وبما وصلنا عن هذه السلالة كونها بسطت نفوذها على كامل اراضي العراق القديم . نجد بذلك ان منطقة واسط قد خضعت لها . ومع نهاية هذه السلالة في (2004 ق.م) ودخول البلاد تحت السيطرة الامورية , نجد ان وحدة  البلاد السياسية للبلاد قد تشطت , وعاد البلد إلى حكم دويلات المدن,وهنا ينتهي (الألف الثالث قبل الميلاد ), ويبدأ (الألف الثاني قبل الميلاد).

منطقة واسط في الألف الثاني قبل الميلاد :

في الألف الثاني قبل الميلاد نجد  منطقة واسط قد وقعت ضمن نفوذ اثنتان من دويلات المدن ، وهما مملكة (دير) ، وسلالة ( ملكيئوم) , وبعد أن استطاع( حمورابي) من توحيد العراق القديم  تحت حكمه في (1763 ق.م), أصبحت منطقة واسط تحت نفوذه . وفي سنة (1595 ق.م) انتهت سلالة بابل الأولى لتبدأ سلالة بابل الثالثة (الحكم الكشي), حيث وقعت منطقة واسط تحت نفوذها حتى عام (1161 ق.م) إذ انتهت هذه السلالة على يد العيلاميين الذين دمروا بابل ونهب كنوزها واثارها . وبعد ذلك استعاد الحكم أمراء سلالة (ايسن الثانية) ،الذين  حكموا مدة قرن من الزمان (1161 ـ 1041 ق.م) كان ابرزملوكهم (نبوخذنصر الاول ) ، الذي قام بغزو بلاد عيلام , وقد سلك طريق الدير في ذلك , ويظهر ان نبوخذنصر توغل إلى داخل الاراضي العيلاميه ، لكنه اضطر إلى التوقف ثم الانسحاب عند نقطة غير معروفه على وجه لتحديد عند نهر الكرخه ، وذلك بسبب تفشي المرض بين جنوده . ويذكر نص مسماري إن الملك (نبوخذنصر الأول) انسحب إلى مدينة تعرف بـ (كور ـ دور ـ ايل ـ سين) والتي هي ربما (دو ـ آيل ـ سين) إلى الشرق من  نهر دجلة ,وبذلك فهي تقع بين نهر الكرخة ومدينة الديرالى الشرق من نهر دجلة , أي إلى الشرق من منطقة واسط .

منطقة واسط في الألف الأول  قبل الميلاد وما بعده

بعد سلالة بابل الرابعة خضع العراق القديم إلى نفوذ القبائل الارامية التي أسقطت سلالة بابل الرابعة ,ثم حكمت بابل  السلالات الخامسة والسادسة والسابعة ,حيث حكمت بين (1038 ـ 991 ق.م) وكان عدد ملوكها سبعة ملوك . تفاقم بعد سلالة بابل السابعة خطر المشيخات الارامية , حيث وصلت زمن سلالة بابل الثامنة إلى حد التضييق على مدينة بابل نفسها ، ثم حكمت سلالة بابل التاسعة , التي حكمها ملك واحد اسمه (نابو ناصر) (746 ـ 734 ق.م), وأصبحت بلاد بابل في عهده تحت السيطرة الأشورية في عهد الملك الأشوري (تجيلا تيليزر الثالث 745 ـ 727 ق.م) ,وهنا نجد إن منطقة واسط قد تبعت فعليا إلى الدولة الأشورية , خاصة إذا عرفنا أن خلفاء( تجيلا تبليزر الثالث) ، قد قاموا بغزو بلاد عيلام . وقد شهدت منطقة واسط مسرح العمليات العسكرية بين( مردوخ ابلا ادينا) وبين ملوك السلالة السرجونية الاشورية , حيث استطاع احد زعماء بابل  المدعو (مردوخ ابلا ـ ادينا) (مردوخ بلادن), أن يستقل في مملكة بابل بتحريض من العيلاميين ومساعدتهم , واعتلى العرش في العام الذي جاء فيه سرجون الاشوري للحكم سنة(721 ق.م) ,لذلك فقد صمم سرجون من القضاء عليه , وبدأ يغزو بلاد عيلام نفسها عام (720 ق.م) .لكن يفهم  من أحداث المعركة التي نشبت عند مدينة دير (قرب بدره) ,إنها لم تكن في صالح سرجون ,وقد استمر مردوخ بلادان في الحكم حتى (711 ق.م)  . جاء سنحاريب الاشوري للحكم (704 ق.م)  مصراً على القضاء على تمرد مردوخ بلادان,  وقد استطاع من القضاء على جموعه  سنة(703 ق.م) وبعد ذلك صمم سنحاريب على غزو المدن العيلاميه بحرا وبرا ,فسلك طريق الاهوار الجنوبية وطهر الاجزاء الجنوبية من  الثوار اتباع مردوخ بلادان , أي أن منطقة الاهوار (البطائح) كانت مركزا لتجمع الثائرين على السلطة المركزية ، كما حصل في عصور لاحقة مثل: تمرد الزنج وعمران بن شاهين, وعندما جاء الى الحكم (اسرحدون) ابن سنحاريب ، فقد عمد إلى إجهاض ثورة في بلاد بابل قام بها ابن مردوخ   بلادان سنة (680 ق.م) والذي حاول الاستيلاء على منطقة (اور) . وبعد مجيء (اشور بانيبال) ابن (اسرحدون) (668 ـ 627 ق.م) إلى الحكم فانه واجه ثورة عارمة في بلاد بابل ،  حيث قاد الثورة اخو الملك نفسه (شمش ـ شم ـ اوكن) الذي عين ملكا على بابل من جانب ابيه( اسرحدون ) ,الذي  سعى إلى عقد تحالفات لمساعدته, كان من ضمنها تحالفه مع الاراميين في الأجزاء الجنوبية من العراق القديم ,ولذلك تكون منطقة واسط ضمن المناطق الجنوبية التي ثارت ضد (اشور بانيبال) . بعد قضاء (اشور بانيبال) على هذه الثورة قام بمهاجمة بلاد عيلام في صيف سنة (653 ق.م) وتقدم بجيشه نحو عيلام سالكا الطريق الذي يمر من مدينة دير ( قرب بدرة)  وهنا نجد ان منطقة واسط بمحاذاتها  لمناطق الطرق نحو عيلام سواء مدينة دير ، أو المسالك الشرقية ،    كانت قريبة من هذه الأحداث .

وقد يثار تساؤل منطقي ، وهو لماذا لم نجد إلى الآن آثارا تعود إلى العصور القديمة في منطقة واسط ، سواء كانت قرى أو مدن ؟

وللإجابة يمكن القول أن منطقة واسط وبحسب الخريطة الاثارية للعراق القديم  ، نجد إنها تقع بين نهري دجلة والفرات, ولم يكن يمر فيها في العصور القديمة مجرى نهر دجلة ، لذلك لم تكن تصلح للاستيطان البشري الدائم ، بل كانت مناطق رعي طبيعية ، خاصة إذا سقطت الأمطار بكميات كافية . كما كانت مياه نهر دجلة تطغى على هذه المنطقة بالفيضان مما يؤدي إلى غمر مناطق واسعة بالمياه ، ثم تنحسر عنها مخلفة غدرانا ، وبركا تكون مقصدا لبعض الحيوانات البرية  ومنها الغزلان, لذلك كانت منطقة واسط  مناطق رعي و صيد في العصور القديمة . 

ويمكن القول ان منطقة واسط ، وخاصة أجزاؤها الجنوبية ،  تمثل  امتداد لمنطقة الاهوار ، بدليل وجود منخفضات طبيعية فيها تملأ عند سقوط الأمطار أو عند الفيضان .

إن قسم من هذه المنخفضات قريب جدا من موقع مدينة واسط الاثرية , لذلك يمكن القول أن منطقة واسط ، كانت في العصور القديمة امتدادا لمنطقة الاهوار الجنوبية , وخاصة في أقسامها الجنوبية ، فضلا عن ذلك فقد كانت مناطق رعي طبيعية ، ومناطق لصيد الغزلان ايضا , كما كانت تمر بها ، أو قريب منها طريق اغلب الحملات العسكرية ، التي كان يقودها ملوك العراق القديم ضد عيلام .

وبعد  انتقال الحكم إلى (نبوخذ نصر الثاني) , وحكم سلالة بابل الحادية عشره(626-536ق.م) فان منطقة واسط ، وقعت ضمن نفوذها إلى   سنة 539 ق.م  ,حيث احتل (كورش) الاخميني بابل ، وبذلك انتقلت السلطة إلى الإمبراطورية الاخمينية .

وفي الحكم الاخميني للعراق القديم وقعت منطقة واسط ضمن الولاية الحادية عشر في الامبراطورية الاخمينية ، التي ضمت  ولاية .  

 انتهى العهد الاخميني بعد فتح الاسكندر المقدوني للشرق ، والعراق سنة (331 ق.م) ثم تلاه العهد السلوقي نسبة الى (سلوقس) احد كبار قواد الاسكندر ,الذين اقتسموا امبراطوريته من بعد موته في بابل سنة (323 ق.م) ,حيث صارت سوريه والعراق وايران من ضمن حصة هذا القائد ,ويبدأ العهد السلوقي بالنسبة إلى العراق القديم في (3 نيسان 311 ق.م) .

تميز هذا العهد  بظاهرة بناء المدن الجديدة التي قام ببنائها الملوك السلوقيين , حيث بنيت مدينة سلوقيه في حدود (247 ق.م), وتعرف بقاياها الان بـ (تل عمر) على ضفة دجلة الغربية ,مقبل (طيسفون) (طاق كسرى)  على الضفة الشرقية , وكانت سلوقية من اكبر مدن الشرق الأدنى حيث قدر عدد سكانها بحدود (600000 نسمه) .

وهنا نلاحظ انه ولأول مره تكون عاصمة جنوب ووسط العراق القديم  مدينة تقع على نهر دجلة دون نهر الفرات . ومن المدن السلوقية المهمة التي انشأت على نهر دجلة كانت مدينة (كرخه) (كراكس) في منطقة (المحمرة).

وعليه فان منطقة واسط  وقعت بين مدينتين هما سلوقيه من الشمال التي تبعد عنها نحو (150 كم) وبين كاراكس من الجنوب . وقامت في هذا العهد  في القسم الجنوبي من العراق ،عند ساحل الخليج العربي دويلة اسمها (كراكينه) او (كراخينه)  التي ورد ذكرها في المصادر السريانيه بهيئة (ميسان) ،حيث نالت استقلالها وانفصلت عن الدولة السلوقيه في عهد انطيوخوس الثالث (223 ـ 187 ق.م)  بعد  اندحاره على يد الرومان .

وتدرجت في النمو حتى غدت في العهد الفرثي (226 ق.م) من الدويلات المهمة , وكان جل سكانها من الاراميين  ,  ويمكن الاستنتاج بالاعتماد على الجغرافية التاريخية لمنطقة واسط ، أن هناك مدن قد أسست بعد السيطرة المقدونية في منطقة واسط , حيث يرد ان السكندريه او (الاسكندريه) بلدة على دجلة بواسط قريبة منها .

كما ان هناك مدنا كانت سابقة  لمدينة واسط الحجاج مثل مدينة (سرابيط) ، وهي مدينة قديمة خربت بعمارة واسط ، وذكر إن الحجاج عندما بنى واسط نقل من هذه المدينة لعمارة داره والمسجد الجامع . ويمكن الاستنتاج ان هذه المدينة تعود إلى الحقبة الساسانية .

وتذكر المصادر إن الملك الأول  لدويلة ميسان  وهو (هيسادسيس) (165 ـ 121 ق.م)  قد استطاع السيطرة على بابل ، ومد سطوته على معظم بلاد الرافدين ، بعد أن انتصر على نائب الملك الفرثي في بلاد الرافدين المدعو (هميروس) .

وبذلك فقد دخلت منطقة واسط تحت سيطرة مملكة ميسان في هذه المدة, ولكن هذه السيطرة لم تستمر ، فقد عادت القوات الفرثيه لتبسط نفوذها على العراق القديم ، وبضمنه مملكة ميسان ، عندما قام الملك (مثرداس الثاني) باخضاع مملكة ميسان لسطانه بحدود (120 ق.م). وقد لعبت منطقة واسط دورا مهما في هذه المدة ,ذلك لوقوعها على الطريق البحري الواصل بين موانئ الخليج العربي ، ومدينة سلوقيه ، ثم مدينة (طيسفون)  التي شيدها الفرثيون لتكون عاصمة لهم في العراق .

ويذكر انه قد زار المملكة – أي ميسان –  (كان ينك) (Kan ying ) مبعوثا من الملك الصيني (بان جاو) من سلالة (الهان) للاتصال بالامبراطورية الرومانية, و قد اتبع طريق القوافل ووصل الى (تياوجه) (Tiao -tche ) أي ميسان في حدود (97 ق.م) ووصف (يانك) المنطقة التي تقع فيها ميسان ،  بان أرضها حارة وواطئة ، وبها من الحيوانات: الاسود والجاموس والكركدن , وبالطبع فان منطقة واسط تمثل الامتداد الشمالي لها.

وهنا نجد ان منطقة واسط وقبل (2000)عام من الآن كانت فيها من الحيوانات البرية تنوع كبير ، وقريب لما موجود في افريقيا حاليا .

وقد كانت منطقة واسط تقع على احد الطرق التجارية المهمة ,وهو الطريق الذي يبدأ من مدينة (خاراكس) (المحمره) ومدينة سلوقيه ثم يتصل بهمدان ( اكبتانا القديمة)  .

ومع نهاية الحكم الفرثي ، وبداية  الدولة الساسانيه  حكم العراق (227 ـ 627  م) , حيث عدّل الساسانيون في النظام الإداري للعراق ، اذ قسموا العراق إلى عدة استانات يتكون كل منها من عدة طسا سيج ، وكانت (كوره) ,كسكر التي تشمل منطقة واسط .تسمى (كورة استان شاذ سبور) . وتتكون من اربعة طساسيج هي :طوسج الزندورد,وطوسج الثرثور,و طوسج الاستان ، وطوسج الجوازر .

وهنا نجد  ان أول استيطان ، ومدن محددة في منطقة واسط كانت مع بناء الساسانيين لمدينة (كسكر),  التي كانت تقع على الجانب الشرقي من نهر دجلة .

وتميزت مدة حكم الساسانيين في واسط  خاصة زمن(الملك قباذ الاول ) (488-531م)  باتساع نهر دجلة وخاصة في منطقة واسط ـ اسفل كسكر ـ مما أدى إلى غرق كثير من الاراضي (35), وهذه كانت البداية لاتساع البطائح (الاهوار) في جنوب العراق.

وكان ذلك متزامنا مع تحول مجرى دجله من مجراه الشرقي المار بـ (العمارة) إلى مجراه المار بواسط,وقد يكون السبب في ذلك عائدا لترسب كميات كبيرة من الغرين في المجرى الشرقي ، مقارنة بانحدار الارض في مجراه الجنوبي ، إضافة لوجود مجرى قديم في الموضع الجنوبي ، كان احد مشاريع الارواء منذ منتصف (الالف الثالث قبل الميلاد)  كما مر سابقا.

وما يعزز خبر البثوق في منطقة كسكر ما جاء في كتاب ( فتوح البلدان) ، حيث يذكر البلاذري:

(ان دجله كانت تصب الى دجله البصرة التي تدعى العوراء … فلما كان زمان قباذ بن فيروز انبثق في اسافل كسكر بثق عظيم ، حتى غلب ماؤه واغرق كثير من الاراضي العامرة) .

ومن الامور جديرة الذكر فيما يتعلق بمنطقة واسط زمن الساسانيين ، انه قد ولد (مزدك) ، وهو صاحب الديانه (المزدكيه) في مدينة (مذاريا ) , وهي مدينة تقع على الشاطئ الشرقي لدجلة ، حيث توجد اليوم مدينة (الكوت) , وكانت مدينة (مذاريا) عامرة حتى القرن الحادي عشر الميلادي, فقد كان يسكنها اشراف الفرس.

وهنا نجد أن منطقة واسط ، قد كانت زمن الساسانيين تحوي على مدينتين معروفتين هما (كسكر) جنوبا ،و (مذاريا ) شمالا.

وفيما يخص مدينة (كسكر), فقد ذكر (ياقوت الحموي) حولها :

كسكر : معناها عامل الزرع , عرفت بتربية الدواجن  ، ويقال أن قصبة كسكر كانت  تمتد من النهروان الى مصب دجلة في البحر ، أي تقع ضمنها ميسان والبصره ومن ضواحيــها:

المبارك و عبدسي و المذار ، ولغيا ، وميسان ، ودستمسان واجام البربر,وكانت من اقوى كور بلاد فارس ، وتضاهي كورة اصفهان , وبلغ خراجها اثني عشر الف الف مثقال ,وقيل سميـــــت كسكر نسبة الى كسكر بن صهمورن الملك الذي هو اصل الفرس, وقيل  انها تعني بلد الشعير  بلغة أهل  حران . 

وهنا نجد ان منطقة واسط  زمن الساسانيين اصبحت ذات أهمية متنامية,وذلك لتحول مجرى دجلة نحوها، وكذلك لنموها الزراعي ، وبناء المدن فيها مثل مدينتي كسكر ومذاريا ، بل وتبعت لها مدن قديمة مثل مدن ميسان ، وصولا إلى مصب دجلة في الخليج, بل وامتدت شمالا إلى حدود المدائن ، وذلك في منطقة النهروان .

ودخلت منطقة واسط التاريخ الإسلامي بعد فتح المسلمين للعراق سنة ( 637م), وبذلك ينتهي نطاق الدراسة المفترضة في هذا البحث .

 

المصادر

– بحث ا.م.د. محمد فهد القيسي ( منطقة واسط في العصور القديمة 5000 ق.م ـ 736م ) والذي تم نشره في مجلة لارك لللسانيات والعلوم الاجتماعية 

test